فارس الظلام وأعداؤه – الحلقة الأولى!

يجري الحديث كثيرًا عن كيف غيرت ثلاثية «Batman»، من تناول السينما لشخصيات الكوميكس، وخصوصًا الجزء الثاني من الثلاثية: «فارس الظلام The Dark Night». قد يكون هذا صحيحًا بنسبة كبيرة، فبينما فاز هذا الفيلم بجائزتي أوسكار منذ أكثر من عشرة سنوات، أصاب كثيرين الإحباط بسبب عدم فوز فيلم «لوجان Logan» بجائزة الأوسكار 2017. لكن دعنا نتوقف عند الشخصية ذاتها: فارس الظلام، بطل الاقتصاص، «باتمان»، كلها أسماء لأفضل محقق جرائم في العالم و أمهر محارب لها. لن أبالغ في أنه سيأتي يوم تقف فيه هذه الشخصية بجانب شخصيات أساطير العالم القديم كلها!

باتمان صنع بنفسه عالمًا كبيرًا، أكثر من أي شخصية أخرى في عالم الكوميكس، ذلك العالم الذي يمتلئ بشخصيات من هواجس فارس الظلام وأفكاره ومخاوفه وذكائه ومنطقه وأساليبه وماضيه ومستقبله.

«الأخوان نولان» حينما تصديا لثلاثية عن شخصية أسطورية، وقع اختيارهما على أنضج شخصية فى عالم الكوميكس وأفضلها. فهي بالغة الثراء، والأفلام الثلاثة أدخلت بالكاد المُشاهد في هذا العالم. فبينما تقف شخصية «سوبرمان» المولود قبله بأشهر قليلة، على قدم المساواة والندية، يتفرد باتمان بأنه ينضم إليه أفضل الأعداء والأشرار وأقواهم، بل يظهر له أبناء وحلفاء وأصدقاء ومساعدون وتابعون ومنشقون. الأكثر من ذلك أنه هو نفسه يظهر عجوزًا ومتقاعدًا، ويظهر باتمان آخر في المستقبل مقاتلًا ومحاربًا للجريمة.

باتمان دخل الثقافة الشعبية أو الـ Pop Culture من أوسع أبوابها، ورسخ مفهومها وطبيعة تأثيرها في المجتمع والعالم.

«كريستوفر نولان» صرَّح أكثر من مرة بأن أعداء باتمان هم الذين يحددون شخصيته، وبخاصةٍ في الثلاثية. فالفيلم الأول عن الخوف والثاني عن الفوضى والثالث عن الألم. لن أبتعد كثيرًا عن رؤيتي الخاصة التي سأحاول أن أعرضها في هذا الموضوع، وملخصها أن أعداء باتمان ينبعون من شخصيته نفسها. إنه يواجه جزءًا من نفسه، من مخاوفة وهواجسه. عندما يواجه الشرير (الفزاعة أو الجوكر أو باين)، فالمواجهة تضعه بالضرورة على المحك والحافة، فهى ليست مجرد مغامرات فقط!

الأخوان نولان أعادا صياغة عالم باتمان، ونسجا خطوط قصصه في سردية واحدة كبيرة. وبالرغم من كثرة ملحوظاتي على تناولهما للشخصية، فإن أبرز ما فيه أنهما نقلا الصراعات إلى محيط أكبر، وهو المجتمع والناس ومدينة غوثام التي ظهرت بشكل مختلف في كل فيلم من الثلاثة، ما قلل من سوداوية الشخصية في حدود ما نعرفه مسبقًا عن تاريخها في الكوميكس، وذلك في مقابل المدينة التي تقع على حافة السقوط والانهيار.

بقليل من المبالغة، جعل الأخوان نولان المدينة انعكاسًا لما يعتمل في نفس باتمان، وهو الإضافة الحقيقية إلى تلك الثلاثية في تاريخ فارس الظلام.

في أكتوبر 2018، صدرت نسخة خاصة بتقنية «Blu-ray»، من أهم مسلسل أنيميشن لمغامرات باتمان بعنوان «باتمان: المسلسل المتحرك Batman: The Animated Series»، وهي إعادة إصدار بنسخة محسنة وأعلى جودة من «DVD» صدر في أوقات مختلفة، وهذه هي النسخة التي سأعتمد عليها هنا في تأريخ حياة الوطواط!

المسلسل عُرض على شاشات التلفزيون الأمريكي بين 1992 و 1997. يضم الموسم الأول 65 حلقة، وبعد النجاح الساحق تقرر عمل موسم ثانٍ، فتأجل عرض آخر خمس حلقات، وضم 15 حلقة أخرى بإنتاج جديد بعنوان «مغامرات باتمان و روبن The Adventures of Batman & Robin» كموسم ثانٍ، وبعدها بفترة أُنتِج موسم ثالث، بإجمالي 105 حلقات. صدرت عام 2008 في أربع أسطوانات DVD: الأولى والثانية يضمان الموسم الأول، والثالثة تضم الموسم الثاني، والرابعة للموسم الثالث. لذلك يظن كثيرون أنه أربع مواسم!

هذا المسلسل أول إنتاج في «عالم دي سي المتحرك DC Animated Universe»، والذي يخلق استمرارية في عالم كبير يضم كل شخصيات «DC»، ويربطهم ببعضهم. الأعمال التي تناولت شخصية باتمان من قبل، لم تهتم بخلق روابط بين العوالم، كانت مجرد مغامرات هزليه وكوميدية في غالبية الأوقات. لكن يظل تميز هذا المسلسل في أنه رسخ كثيرًا من القصص حوله بشكل جاد، والتزم بجوانب متعددة من عالمه وشخصياته. فمنذ ظهور باتمان على صفحات الكوميكس، أُنتِج له الآلاف من القصص والسلاسل والكتب، إذ استثمر المسلسل معظمها وأفضلها بذكاء. وكثير من روايات الكوميكس التي صدرت بعد المسلسل اعتمدت على الأجواء الداكنة والمظلمة وسمات الشخصية التي رسخها المسلسل. فإذا كنت تريد أن تعرف باتمان، فعليك بهذا المسلسل. لأنه كما قلت لكم: هناك الآلاف من الكتب والقصص عن عالم باتمان، إضافة إلى عدد كبير من الـ«غرافيك نوفلز» والأنيميشنز التي يضمها بداخله.

سأعرض لكم عددًا من حلقات المسلسل المفضلة بالنسبة إليَّ، بغرض الحديث عن جوانب من شخصية باتمان، لا يعرفها غير عشاق الكوميكس المخضرمين، مسلطًا الضوء على كل شخصية من هذا العالم. إضافةً إلى أن اختياراتي لا تخضع لترتيب الحلقات في المجموعة، وبالطبع مع حرية حرق الأحداث. لذلك وجب التحذير!

في البداية، أود أن أنوه بأنهم أعادوا تصميم الشخصيات، وتغيرت بعض سماتهم في الموسم الثالث، وهذا لم يعجبني على الإطلاق!

Appointment in Crime Alley – ميعاد في زقاق الجريمة!

في الغرافيك نوفل «عودة فارس الظلام The Dark Knight Returns» لعام 1986 للكاتب «Frank Miller»، تحدث مواجهة رهيبة بين باتمان وسوبرمان، نقلها المخرج «زاك سنايدر Zach Snyder» إلى فيلم «باتمان ضد سوبرمان: فجر العدالة Batman Vs Superman: Dawn Of Justice»، كما هي، لكن لأسباب مختلفة تمامًا عن رواية فرانك ميلر!

في الرواية، يحدد سوبرمان «متى»، وباتمان يحدد «أين». المكان زقاق الجريمة «Crime Alley». فرانك يقدم عدة إحالات إلى تاريخ سابق لباتمان. منها تلك الحلقة المميزة، وفيها يستولي رجل أعمال على منطقة راقية اسمها الحقيقي والقديم «Park Row صف الحدائق». بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا تصبح مرتعًا للصوص والمجرمين، وغالبيتها مبانٍ مهجورة. لهذا يريد ذلك الرجل أن يهدم تلك المباني ليقيم مولًا تجاريًّا في مكانها. يقف في طريقه مجموعة من السكان الفقراء، فيقرر أن ينسفهم ليمهد الطريق لخططه، ويحدد موعدًا لزراعة متفجرات ناسفة للهدم، وبالمصادفة يكون نفس الموعد السنوي الذي يقابل فيه باتمان الدكتورة «ليزلي تومكينز Leslie Thompkins» في نفس المكان!

لم يستطع باتمان إبطال كل القنابل في زقاق الجريمة، فانفجرت معظمها وتهدمت المباني المتهالكة. هذا لا يعني فقط نجاح المخطط الإجرامي، بل إنه آن الأوان أيضًا للتخلي عن ذكريات غائرة في نفس «بروس وين». فزقاق الجريمة هو المكان الذي وقعت فيه جريمة قتل والدَي الطفل بروس، وكل سنة في نفس الموعد يضع وردتين في المكان نفسه.

الزيارة بغرض شخصي، فالطبيبة ليزلي هي التي اهتمت بالطفل بعد الحادث مباشرة، وهي أيضًا صديقة مقربة من والده. يحرص على حضور الذكرى السنوية بقناع باتمان، وليس بشخصية بروس وين، ما يدل على قوة تأثير هذه الحادثة في شخصية محارب الجريمة.

في هذه المغامرة، لا يقابل باتمان أيًّا من أعدائه، حتى رجل الأعمال الذي يدبر التفجير، يفلت من العقاب. بالمناسبة، اسمه «رولاند داجيت Roland Daggett»، وهو رجل الأعمال الذي تضع شركته المتفجرات في البنية التحتية لأنفاق مدينة غوثام في الجزء الثالث من ثلاثية «نولان-باتمان»، كما فعل في زقاق الجريمة!

لكن الموعد السنوي يمثل عبئًا على فارس الظلام. ففي مغامرة بعنوان «I am the Night أنا الليل»، يتسبب هذا الموعد في تأخره عن مساعدة الشرطة في مداهمة وكر أحد المجرمين، ما يؤدي إلى إصابة المفتش «غوردن» برصاص طائش، ويُحمِّل الوطواط نفسه اللوم.

المفتش غوردن ليس فقط صديقًا في الشرطة، لكنه أيضًا في نفس عمر والده لو عاش بعد حادثة زقاق الجريمة، ما يجدد الشعور بالذنب في نفس باتمان. حلقة «أنا الليل» الأفضل في إظهار سوداوية الشخصية، ففيها يقول: «عندما تحدق كثيرًا في الهاوية، فالهاوية تنظر إليك». وهذا اقتباس بتصرف من نيتشه في كتابه «ما وراء الخير والشر».

كنت أريد أن أبدأ بالحديث عن تلك الحلقة، لكن الموعد في زقاق الجريمة أهم بالنسبة إلى فارس الظلام.

«I am the Night» أنضج حلقات المسلسل بأكمله من وجهة نظري، وهي السبب في أن المسلسل ما زال حيًّا في ذاكرة الناس بعد مرور ما يقرب من 25 عامًا على إنتاجه.

لو بدأت بالحديث عن هذه الحلقة، فلن تستطع عدة مقالات للإلمام بها، رغم أنها تحكي عن يوم عادي في حياة فارس الظلام، ذلك الإسم الذي اشتهر به باتمان بعد رواية «فرانك ميللر»، ولم يقصد به المؤلف أن شخصية باتمان تعمل في الظلام، أو أنه يلبس رداء وعباءة سوداء، لكنها تشير إلى روح الفارس السوداء، وإلى ما يحمله من ظلام وعبء نفسي أكبر مما يُحتمل، ويتمنى لو استطاع تجاوز هذا الألم. باتمان يرى بعينيه كيف تحول إلى «أكليشيه»، ويفكر كثيرًا في جدوى ما يفعله.

يتبع في المقال القادم…
تابعونا و انتظروا عودتنا مع البقية فقط هنا على بوابة الكوميكس!

Share Button
Avatar photo

طه عبد المنعم

كاتب ومترجم ولي مجموعة قصصية فازت بجائزة ساويرس ومهتم بعوالم الكوميكس والأساطير.

لا توجد أراء حول “فارس الظلام وأعداؤه – الحلقة الأولى!

اترك رد